الأحد، 18 يوليو 2010

مجزرة إبادة سربرنيتشا.. الجريمة والعقاب

الكاتب عبد الباقي خليفة

مجزرة إبادة سربرنيتشاالآن ورغم مرور 15 سنة على جريمة الإبادة في سربرنيتشا، وعلى الرغم من اعتراف البرلمان الأوربي بحصول جريمة الإبادة، إلا أن الصرب في بلجراد اكتفوا بإدانة الجريمة دون وصفها بـ"الإبادة"، أما صرب البوسنة فإنهم لا يزالون يعطلون البرلمان المركزي على اتخاذ موقف يدين جريمة الإبادة، وهو ما يعني -وفق المراقبين- أن الصرب عمومًا وصرب البوسنة خصوصًا يتخذون نفس الموقف التي تعلنه المنظمات الصربية المتطرفة، مثل "التشتنيك" و"أوبراز" وغيرها، والتي تدعو لإفناء غير الصرب لإقامة "صربيا الكبرى" على حساب أراضي ودماء وجماجم الآخرين.

إصرار على الجريمة

في الذكرى الخامسة عشرة لجريمة الإبادة في سربرنيتشا، والتي يعاد فيها دفن 772 ضحية من ضحايا سربرنيتشا (وهي أكبر جنازة حتى الآن منذ البدء في إعادة دفن الضحايا في مقابر فردية بعد إخراجهم من المقابر الجماعية)، هناك إصرار صربي على إنكار الجريمة بطرق مختلفة؛ ولذلك لم تتخذ السلطات الصربية سواء في صربيا أو البوسنة أي إجراءات ضد الصرب المتطرفين الذين ينشرون الكراهية، ويمارسون الاعتداءات ضد المسلمين، بالقول: "إن هذا ليس موقفنا" و"لا يمكننا منعهم من التعبير، حتى وإن كان التعبير دعوة للقتل، وإشادة بجرائم الإبادة"!!!

وقالت رئيسة (جمعية أمهات سربرنيتشا) منيرة سوباتشيتش للمسلم: "صرب البوسنة يؤكدون بموقفهم هذا، أنهم لا يزالون يتحلون بالطبع الدموي، وبروح الكراهية، وتبييت نية الإجرام والإبادة". وتابعت "أعضاء البرلمان الصرب (للصرب حق الفيتو على قرارات البرلمان ومؤسسات الدولة، وهو ما يحاول المسلمون إبطاله باعتماد مبدأ الأغلبية) يرسلون من خلال منع التصويت على بيان حصول إبادة في سربرنيتشا، يرسلون إشارات خطيرة، تهدد مستقبل جميع السكان في البوسنة". وأردفت "البرلمان الأوربي أصدر في سنة 2009م بيانًا يدين جريمة الإبادة، ولكن يبدو أن البرلمان البوسني، وفي ظل الدستور الحالي الذي تمثله اتفاقية دايتون التي أعدها الأمريكان، سيأخذ وقتًا طويلاً قبل صدور بيان من هذا القبيل"

ويخشى الصرب من أن الاعتراف بارتكاب جريمة الإبادة في سربرنيتشا، يعني كشف الحقيقة للعالم، وهي أن ما حصل عليه الصرب في اتفاقية دايتون، كان نتيجة الإبادة في سربرنيتشا، وهو ما أكده أكثر من مسئول صربي. وقال عضو البرلمان من صرب البوسنة، سلافكو يوفيتشيتش، إنه في حال اعترافه شخصيًّا بجريمة الإبادة في سربرنيتشا، فإن ذلك يعني بالنسبة إليه الرحيل: "عندما نوافق على بيان يدين جريمة الإبادة في سربرنيتشا، فإن ذلك يعني أنه يجب علينا الرحيل، وسيكون هناك وضع شديد الحرج لنا، لا سيما في بيالينا وبنيالوكا" وهما مدينتان بوسنيتان، شهدتا بدورهما أفظع جرائم الإبادة والتهجير في بداية العدوان على المسلمين في البوسنة والهرسك سنة 1992م. ويقترح الصرب إصدار بيان يدين جميع الجرائم بدون ذكر الأماكن والجناة، وهو ما يعني بالنسبة للمسلمين تمييع الحقائق، وتزوير التاريخ؛ إذ إن المسلمين يمثلون نسبة 92% من ضحايا العدوان، بينما لم تزد نسبة (ضحايا) الحرب من الصرب عن 5%، والكروات عن 3%، وفق إحصائيات الأمم المتحدة.

فرادة سربرنيتشا

جرائم الإبادة والقتل في سربرنيتشاجريمة الإبادة في سربرنيتشا تختلف عن بقية الجرائم؛ ولذلك لا يمكن مساواتها بأي حوادث قتل أخرى، بما في ذلك جرائم الإبادة في سراييفو، وبيهاتش، وموستار، وبيالينا، وبريدور، وفيشي جراد، وبريزور، وغيرها؛ إذ إنه وفي وقت قياسي، وباستغلال عملية نزع الأسلحة من المسلمين في عهد بطرس بطرس غالي (القبطي المصري) تم قتل أكثر من 8 آلاف من العزل تحت مرأى ومسمع أوربا وأمريكا وحلف شمال الأطلسي، وتزامنًا مع إشغال (المسلمين) بمن يربح المليون و"نجم الخليج" و"سوبرستار" وغيرها من البرامج الموجّهة، دون أن تكون هناك برامج ثقافية مقابلة تعزِّز الهوية، وتشعر المرء بالانتماء الثقافي والاعتزاز به

وعودة إلى سربرنيتشا، فإن العالم أجمع يشهد على فرادة وفظاعة ما حصل، ووضاعة من قاموا بالجريمة، حيث أطلقوا الرصاص على عزل من السلاح، ويمكن مقارنة ذلك برفض المسلمين في الجزائر إطلاق النار على روجيه جارودي أثناء الاحتلال الفرنسي لبلادهم؛ لأنه أعزل، والإسلام يحرم ذلك، وهي من أخلاق الحرب في الإسلام. في حين كان البطاركة يباركون تلك الجرائم ضد الإنسانية، وهناك أفلام تسجيلية لذلك (غير مفبركة كما تفعل الكنيسة القبطية بحق الدعاة ومنهم الشيخ الشعرواي رحمه الله).

ولكن الصرب يريدون أن يقارنوا قتلاهم في الحرب، مع الضحايا الذين كانوا ضحايا الغدر من عدة أطراف، وفي مقدمتها الجهات الغربية (الدولية) وآلة التنفيذ (الصرب)! ورغم تورط دولة صربيا فيما جرى في سربرنيتشا إلا أن محكمة جرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة، ورغم تأكيدها على حصول جريمة إبادة في سربرنيتشا، راح ضحيتها -حسب المحكمة ذاتها- أكثر من 8 آلاف نسمة، إلا أنها برّأت صربيا من المسئولية المباشرة، وحصرتها في صرب البوسنة، ثم في عدد من السياسيين والعسكريين، في مقدمتهم زعيم التشتنيك الصرب رادوفان كراجيتش، والجنرال راتكو ملاديتش قائد العصابات الصربية، التي كانت مدعومة ليس من صربيا والمنظمات الصربية فحسب، بل بمنظمات عسكرية في روسيا واليونان وبلغاريا ورومانيا، شاركت جميعها في مجزرة سربرنيتشا، وطلب منها الجنرال راتكو ملاديتش رفع أعلام بلدانها على جماجم الضحايا في سربرنيتشا، أثناء وعقب جريمة الإبادة مباشرة.

إذن لا يمكن جمع جريمة الإبادة في سربرنيتشا وغيرها من الجرائم، فضلاً عن قتلى الحرب والمواجهات العسكرية التي لم تكن متكافئة، حيث كان المسلمون المتضررون الوحيدون من حظر بيع الأسلحة لدول يوغسلافيا السابقة في عهد بطرس بطرس غالي، فالجميع كانوا يدركون بأن صربيا وكذلك كرواتيا من الدول المصنعة للأسلحة، وتبيع منها بكميات كبيرة، وتدر على بلجراد مليارات الدولارات سنويًّا، ومن زبائنها ليبيا والكويت والجزائر ودول إسلامية وعربية أخرى.

محاكمة الجناة

ليس هناك ما هو أدل على فرادة ما حصل في سربرنيتشا من المحاكمات الجارية للمجرمين الصرب، وفي مقدمتهم رادوفان كراجيتش، واستمرار فرار الجنرال راتكو ملاديتش. وفضلاً عن الذكريات الأليمة التي يحييها المسلمون في مواعيدها المسجلة كل سنة، والتي تمثل شهادة حية على ما جرى ليس في سربرنيتشا فقط بل في البوسنة بأسرها.

وبالمقارنة بين الذين حوكموا أو يحاكمون، أو يجب أن يحاكموا من الصرب مع غيرهم، ندرك أن ما حصل في سربرنيتشا ليس كغيره، وأن ما تعرض له المسلمون في سربرنيتشا خاصةً والبوسنة عامة، فريدٌ هو الآخر، فنسبة 92% لا تتعادل بداهةً مع نسبة 5% في صفوف الصرب، أو 3% في صفوف الكروات.

ومن سجلات القضاء الدولي -رغم اعتقادنا أنه لم ينصف الضحايا كما يجب- قرار محكمة جرائم الحرب الخاصة بيوغسلافيا السابقة، في لاهاي يوم الخميس 10 يونيو 2010م، بسجن 7 من الجنرالات الصرب المدانين بارتكاب جرائم إبادة، وجرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وخرق القانون الدولي الخاص بالمدنيين أثناء الحرب في سربرنيتشا، وذلك لمدد تتراوح بين مدى الحياة و5 سنوات.

فقد أصدرت المحكمة حكمًا بالسجن مدى على الحياة على كل من فويادين بوبوفيتش (53 سنة)، وليوبيتشا بيارا، بعد إدانتهما بارتكاب جرائم حرب في سربرنيتشا في يوليو سنة 1995م. وحكمت المحكمة على دارجو نيكوليتش (53 سنة) بالسجن لمدة 35 سنة، وعلى راديفوي ميليتيتش (63 سنة) بـ19 سنة سجنًا؛ حيث كان مساعدًا لقائد قوات صرب البوسنة الفار حتى الآن من العدالة. وعلى الجنرال راتكو ملاديتش، وعلى ليوبومير بوروفتشانين (50 سنة) بالسجن لمدة 17 سنة بعد إدانته بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وخرق القانون الدولي، وهي نفس التهمة الموجهة لبوروفتشانين. ونال فينكو باندوروفيتش (51 سنة) حكمًا بالسجن لمدة 13 سنة بعد تبرئته من تهمة الإبادة. وحصل ميلان غفيرو (73 سنة) على حكم مخفف بالسجن لمدة 5 سنوات.

وقد روعي في الأحكام الصادرة أعمار المدانين؛ ليتم إخراجهم من السجن بعد قضاء ثلثي العقوبة المفروضة عليهم، علمًا بأن السجن مدى الحياة لا يزيد على 20 سنة يقضيها المدان في السجن المرفَّه.

وكان بوبوفيتش قائدًا للواء "درينا" ثم "بييرا"، ثم قائدًا لهيئة الأركان الصربية في البوسنة. وقد أكدت المحكمة أنه قام بقتل أكثر من 7 آلاف من سكان سربرنيتشا "مع سبق الإصرار والترصد"، وهي الإدانة المثبتة على دراجن نيكوليتش، الذي كان ضابطًا في لواء "زفورنيك"، وسلطت الأحكام بالسجن على بقية المدانين لمشاركتهم في عمليات الإبادة في سربرنيتشا والمساعدة في ذلك

وقال رئيس المحكمة شامل أجيوس إنه "في يوليو 1995م وبعد سقوط سربرنيتشا التي كانت تحت حماية الأمم المتحدة بعد نزع أسلحة أهلها، قامت القوات الصربية بقتل أكثر من 7 آلاف نسمة، وهي عملية إبادة واسعة وفق القانون الدولي". وتابع "حتى الآن تم تحديد الحمض النووي لأكثر من 5 آلاف ضحية من ضحايا سربرنيتشا، ونحن نتوقع أن يرتفع العدد إلى 7.827 ضحية".

في انتظار العدل المطلق

تجدر الإشارة إلى أن محاكمة الضباط الصرب المدانين بارتكاب مجازر جماعية في سربرنيتشا بدأت في يوليو 2006م وانتهت في سبتمبر 2009م، وهي أطول محاكمة شهدتها لاهاي، حيث استغرقت 425 يومًا، وشهد فيها 315 شاهدًا، منهم 182 لصالح الادعاء و132 لصالح الدفاع.

وكان الصرب قد سيطروا على سربرنيتشا، التي أعلنتها الأمم المتحدة في عهد بطرس بطرس غالي آمنة بعد نزع أسلحة أهلها، وقتلوا نحو 8 آلاف، وطردوا مئات الآلاف من النساء والأطفال. وقد تبادلت الجهات الدولية الاتهامات بخصوص مسئوليتها عن الجريمة، حيث أصدرت الأمم المتحدة في ذلك الحين قرارًا يمنع حلف شمال الأطلسي بشن أي هجمات بدون أخذ موافقتها. كما تثار الكثير من الأسئلة حول استبدال القوات الأوكرانية بقوات هولندية قبيل حملة الإبادة في سربرنيتشا. وكانت جهات عسكرية أمريكية قد حملت القوات الهولندية مسئولية سقوط سربرنيتشا؛ لأن أغلب القوات الهولندية التي كانت مرابطة في سربرنيتشا آنذاك من المثليين جنسيًّا.

وفي غير سربرنيتشا، ما أصدرته محكمة جرائم الحرب في لاهاي، في وقت سابق، وهو الحكم بالسجن مدى الحياة على أحد مجرمي الصرب، ويدعى ميلان لوكيتش (42 سنة)، فيما قضت بسجن قريبه سريدوي لوكيتش (48 سنة) بالسجن لمدة 30 عامًا. وذلك بعد إدانتهما بارتكاب جرائم حرب ضد البوشناق في إقليم فيشي جراد بين 1992 و1994م. وقال القاضي باتريك روبنسون أن "ميلان لوكيتش، وسريدوي لوكيتش كانا من قادة عصابتي النسور البيضاء، وقاما بارتكاب جرائم قتل وتهجير واغتصاب في الفترة ما بين 1992 و1994م". وقال القاضي روبنسون إن "ميلان لوكيتش مدان في جميع التهم المنسوبة إليه، ومن بينها قتل 119 مدنيًّا معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ، وبقتل 12 رجلاً في منزل بفيشي جراد سنة 1992م، وبقتل امرأة في فيشي جراد في معتقل أزمانيتسا".

وقد اعترف سريدوي لوكيتش (48 سنة) بمساعدته في قتل 59 مدنيًّا في فيشي جراد بتاريخ 14 يونيو 1992م. وشدد القاضي روبنسون أثناء النطق بالحكم أن "جرائم الحرب التي ارتكبت في البوسنة ضد البوشناق المسلمين، هي من أسوأ الجرائم التي ارتكبت ضد الإنسانية في القرن العشرين".

وهناك أمثلة كثيرة لكن المساحة لا تتسع لذلك، بيد أن يوم القيامة، يوم العدل المطلق، يتسع لذلك وأكثر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق